الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وَهَذَا الْوَجْهُ مُخَالِفٌ لِلْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ مِنْ نُصُوصِ الْقُرْآنِ وَصِحَاحِ الْأَحَادِيثِ مِنْ عِدَّةِ وُجُوهٍ لَا حَاجَةَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِلَى تَفْصِيلِهَا وَتَرْجِيحِ مَذْهَبِ السَّلَفِ وَأَهْلِ الْأَثَرِ بِهَا عَلَى مَذْهَبِ الْأَشَاعِرَةِ فِي مَوْضُوعِ إِثْبَاتِ الْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ لِلَّهِ تَعَالَى لَا عَلَيْهِ وَتَنْزِيهِهِ عَنْ ضِدِّهِمَا، وَلَا إِلَى بَيَانِ كَوْنِ الْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَتَحَقَّقَا فِيمَنْ لَا فَرْقَ فِي أَفْعَالِهِ بَيْنَ الْأَضْدَادِ، بِحَيْثُ يَكُونُ الضِّدَّانِ عِنْدَهُ فِي الْحُسْنِ وَالْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ سَوَاءً.وَلَكِنَّنَا نَقُولُ: إِنَّ حَاصِلَ هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يُجِيزُ وَيَسْتَحْسِنُ الْغُفْرَانَ لِلْمُشْرِكِينَ مِنْ قَوْمِهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ حَسَنٌ مَعْقُولٌ فِي نَفْسِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُوجَدُ مَانِعٌ يَمْنَعُ مِنْهُ فِي شَرْعِهِ. وَهَذَا يُخَالِفُ نَصَّ قَوْلِهِ تَعَالَى الْمُتَقَدِّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْوَجْهَ يَقْتَضِي اخْتِلَافَ دِينِ اللهِ الْوَاحِدِ، فِي هَذَا الْأَصْلِ مِنْ أُصُولِ الْعَقَائِدِ، وَأَنْ تَكُونَ مِلَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْعَدَ مِنْ مِلَّةِ عِيسَى عَلَيْهِ رَحْمَةُ اللهِ وَمَغْفِرَتُهُ وَالنُّصُوصُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا أَجْدَرُ مِنْ غَيْرِهَا بِهَذِهِ السَّعَةِ، وَمِنْهَا مَسْأَلَةُ غُفْرَانِ الشِّرْكِ لَوْ كَانَ مِمَّا يَشْرَعُهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ؛ لَأَنَّ مَنْ جَاءَ بِهَا هُوَ الَّذِي خَاطَبَهُ اللهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (21: 107) وَقَالَ فِيهِ إِنَّهُ يَضَعُ عَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ.وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنْ أَجْوِبَتِهِ فَمَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ تَوْبَةِ مَنْ قَالُوا ذَلِكَ الْكُفْرَ، وَهُوَ بَدِيهِيُّ الْبُطْلَانِ، وَلَوْ صَحَّ لَقِيلَ: إِنَّ الْمَعْهُودَ فِي الْقُرْآنِ أَنْ تُقْرَنَ الْمَغْفِرَةُ لِلتَّائِبِينَ بِذِكْرِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ لَا بِذِكْرِ الْعِزَّةِ وَالْحِكْمَةِ.وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا رُوِيَ عَنِ السُّدِّيِّ مُخَالِفًا لِلْجُمْهُورِ مِنْ أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ وَالْجَوَابَ فِي الْآيَاتِ كَانَا بَعْدَ رَفْعِ عِيسَى إِلَى السَّمَاءِ (قَالَ فِي تَصْوِيرِهِ) يَعْنِي: إِنْ تَوَفَّيْتَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ وَعَذَّبْتَهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ فَلَكَ ذَاكَ، وَإِنْ أَخْرَجْتَهُمْ بِتَوْفِيقِكَ مِنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ وَغَفَرْتَ لَهُمْ مَا سَلَفَ مِنْهُمْ فَلَكَ أَيْضًا ذَاكَ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا إِشْكَالَ. اهـ.وَأَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْوَجْهَ أَضْعَفُ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي قَبْلَهُ، فَجَمِيعُ مَا أَوْرَدَهُ الرَّازِيُّ مِنَ الْوُجُوهِ ضَعِيفٌ، وَمَا كَانَ لِيَخْفَى ضَعْفُهَا بَلْ سُقُوطُهَا وَبُطْلَانُ كَثِيرٍ مِنْ مَسَائِلِهَا عَلَى ذَكَائِهِ النَّادِرِ، وَاطِّلَاعِهِ الْوَاسِعِ، لَوْلَا عَصَبِيَّةُ الْمَذَاهِبِ. وَلَكِنَّ قَوْلَهُ فِي أَثْنَاءِ شَرْحِ الْوَجْهِ الثَّانِي إِنَّ مَقْصِدَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ كَلَامِهِ تَفْوِيضُ الْأَمْرِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ، وَقَدْ هَدَانَا اللهُ تَعَالَى إِلَى تَفْسِيرِهِ، وَشَرْحِ نُكْتَةِ الْبَلَاغَةِ فِيهِ بِأَوْضَحِ تَبْيِينٍ.وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا بَيَّنَاهُ أَنَّ كَلَامَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَتَضَمَّنُ شَيْئًا مِنَ الشَّفَاعَةِ لِقَوْمِهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا عِدَّةُ أَحَادِيثَ (مِنْهَا) حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا قَوْلَ اللهِ تَعَالَى فِي إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} (14: 36) الْآيَةَ. وَقَوْلَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: اللهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي. وَبَكَى فَقَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: يَا جِبْرَائِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالَ وَهُوَ أَعْلَمُ فَقَالَ اللهُ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوءُكَ» (وَمِنْهَا) حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَالَ فِيهِ: أَلَا وَإِنَّهُ يُجَاءُ بِرِجَالٍ مِنْ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ: أَصْحَابِي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {الْحَكِيمُ} قَالَ فَيُقَالُ: «إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ» وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ بِهَذَا الْمَعْنَى زِيَادَةٌ «فَأَقُولُ بُعْدًا لَهُمْ وَسُحْقًا» وَقَدْ وَرَدَ هَذَا الْمَعْنَى فِي عِدَّةِ أَحَادِيثَ فِي الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ فِي أَلْفَاظِهَا بَعْضُ اخْتِلَافٍ لَا يُغَيِّرُ الْمَعْنَى. مِنْهَا أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَحْدَثُوا بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُذَادُونَ، أَيْ يُطْرَدُونَ عَنِ الْحَوْضِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِمْ، فَقِيلَ: هُمُ ارْتَدَوْا بَعْدَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ وَقَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ، وَقِيلَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ، وَقِيلَ: هُمُ الْمُبْتَدَعَةُ. (وَمِنْهَا) حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ عِنْدَ أَحْمَدَ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ مَرْدَوَيْهِ «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ بِهَذِهِ الْآيَةِ {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} إِلَخْ. حَتَّى أَصْبَحَ يَرْكَعُ بِهَا وَيَسْجُدُ فَسَأَلَهُ أَبُو ذَرٍّ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي سُبْحَانَهُ الشَّفَاعَةَ فَأَعْطَانِيهَا وَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى مَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا».فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَقَامَ التَّفْوِيضِ غَيْرُ مَقَامِ الشَّفَاعَةِ وَأَنَّ الشَّفَاعَةَ لَا تَنَالُ أَحَدًا يُشْرِكُ بِاللهِ تَعَالَى شَيْئًا، وِفَاقًا لِمَا جَاءَ بِهِ الْوَحْيُ عَلَى لِسَانِ عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وَعَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي آيَتَيْنِ مِنْ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَوِفَاقًا لِلْآيَاتِ الَّتِي تَنْفِي الشَّفَاعَةَ فِي الْآخِرَةِ بِإِطْلَاقٍ أَوْ تَنْفِي قَبُولَهَا، أَوْ تُقَيِّدُهَا عَلَى تَقْدِيرِ حُصُولِهَا بِمِثْلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} (21: 28).بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَفْوِيضِ عِيسَى أَمْرَ قَوْمِهِ إِلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِتِلْكَ الْعِبَارَةِ الْبَلِيغَةِ، فِي إِثْرِ تِلْكَ الْأَجْوِبَةِ السَّدِيدَةِ، تَتَوَجَّهُ النَّفْسُ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا يَقُولُهُ الرَّبُّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الْعَظِيمِ، وَتَسْأَلُ عَنْهُ بِلِسَانِ الْحَالِ أَوِ الْمَقَالِ إِنْ لَمْ تَسْمَعْهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ}. اهـ.
|